mercredi 5 mai 2010

البحر هنشيرنا - La mer est notre ferme


البحرُ هِنْشِيرُنا
عن قصّةٍ لمحمّد البشير

هل كان يعرف أنه منحدر من أسرة جاءت المغارة منذ القرن التاسِع للهجرة؟ وهل أنت تعرف وقد سكنت هذه المدينة المتميّزة «صيادة» أنك أيضا تنحدر من نفس الأسرة؟

كان عبد القادر يحادث نفسه بهذه الكلمات ويتذكر صباه عندما كان يتردّد على الكتّاب مع صغار الحيّ إذ كان يذهب كل صباح إلى «سيدي عمّار» كُتّاب الحيِّ وكعبة صِغاره. تعلّم عبد القادر ككلّ الأجيال التي سبقته وتمكّن من حفظ بعض السّور والقراءة والكتابة وعاش أيّام صباه بين دارهم والكتّاب والكلّ يقع على مُرتفع يطلّ على البحر وخليج المُنستير وخليجها الجنوبيّ الصغير. كان عبد القادر، كلّ يوم،  يُشاهد عن بُعد بناءات هذه المدينة العريقة التي تتراقص بين مياه البحر وزرقة السّماءِ الصّافية أوْ ضباب السُّحبِ المُمْطرة، وكان قُبالَة هذا المشهد المُمْتِع، يَقع بصرُهُ على شبحِ أرضٍ غامضةِ الملامِحِ، قِيل له إنَّها جُزُرُ «قُــــورِيا».

عاش عبد القادر وسَط هذا المُحيط الضيّق الواسع... فالبلدة التي احتضنته لا تتجاوز زنقتين يربط بينهما نهج ضيِّقٌ يصبُّ شرقًا في اتّجاه سيدي عمّار والبحر، وجنوبا في اتجاه الجامع القديم والغابة... وتمركز الحيّ كُلُّه حول دار انتصبت كالقلعةِ وسمَّاها سُكَّان الحيّ «الدّار القلعة» وهي أوّلُ بيت شُيِّد فوق مغارتين صغيرتين، سكنها بدون شكٍّ أُناسٌ بِدائيُّون، ثُمّ امرأة مع أبنائها «الليلي والقسوات ورِبْح». وكان أبو ربح يقول لابنته عندما يقصد البحر صباحًا : «يَا رِبْح يَا نَجْمةَ الصُّبْح يَا زارْقَه مِنْ قبيله» هيّا معي إلى البحر.

أصبحت العائلة «صيادة» وأصبح الحي «صيادة» وبُنِيَت المنازل والجامع والزنقتان والدكاكين الرابطة بين الزنقتين التي نشاهدها اليوم بطابعها المتميّز. وتصاهرت العائلة «الصيادة» مع جيرانها، فزُفَّت ربح إلى شابٍ من لمطةوتزوّح اللّيلي من فتاة من قصر هلال وعشق القسوات نبيلة من المكنين فتزوّجها. تعلق الجميع بالبحر، وأنجبوا وتكاثروا والدار القلعة صامدة فوق الصخرة والمغارتين، وهي لا تفتح إلاّ على البحر تُراقِبُهُ ويُراقبها، وتُغَنِّي له ويُغنِّي لها ولكلٍّ منهما أنشودته الخالدة التي يُغنّيها كلّ صيّادي اليوم.

كانت أم ربح تُسمّى لطيفة وقيل أن اسمها كان رعد أو دعد، لذا فإن الحياة بصيادة تتأرجح بين لطف نسيم البحر وعنف تلاطف أمواجه بين رغد العيش وصيد وفير وبين كوارث بحريّة ذهبت برجال إلى الأبد، فيتّمت أطفالا أعشت عيون أمهات بكاءً على أبنائهم الذين لم يعودوا بعد من البحر... فالبحر هو البداية والنهاية بصيادة، والزياتين والسواني والأجنة التي حوّلت الدار القلعة والحي القلعة والمدينة اليوم هي امتدادٌ لعمل أهل البحر. إن البحر والعمل بالبحر والحيل لإيقاع الحوتة بيد الصياد هي من شواغلنا جميعا، نحن أبناء صيادة، فكلّنا ذو نسب إلى العائلة الصيادة والدار «القلعة» التي سكنتها لطيفة أو رعد أو دعد مع ابنيها الليلي و القسوات وبنتها ربح وزوجه اللطيف الحازم ماجد. كلنا ننحدر من هذه العائلة الرائدة القادمة من المكنين ولا حسرة لنا على ضيق أرضنا ولنا البحر مرتعا.

قيل زار أحدهم مدينتنا وكن من الأرياف المجاورة، كان الرجل نازلا ضيفا على أحد آل ماجد بصيادة، فلما اطّلع على ما حول المدينة من مراعي وحقول وزياتين، راعه ضيق المساحة وقلة المرعى، فتساءل عن رزق أهل الدّار، فأشار مضيفُه إلى البحر وقال : «هذا هنشيرُنا»  ليكن لنا في اليابانيّين إسوة حسنة، وتحادث الرجلان مطوّلا حول «قصعة الكسكسي بالحوت الصيّادي» وكيف أن الحكمة ضالّة المؤمن أين وجدها التقطها... وأن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لو تعلّقت همّة الإنسان بما وراء العرش لناله».

عن مجلة إنجازات البلدية، مؤسّسة سعيدان للنّشر - سوسة، سنة 1990، ص 7-9